31 - 10 - 2024

الغزو الثقافي الغربي وأثره على القطيعة المعرفية | "علاقة الذات بالموضوع ، أنموذجا"

الغزو الثقافي الغربي وأثره على القطيعة المعرفية |

لماذا هذا الموضوع بالذات وهل ثم ضرورة ملحة لطرحه الآن.؟!

وهل سيطرح الموضوع بنظرة ورؤية تجديدية معاصرة أم سيكون شأنه شأن الموضوعات الكلاسيكية التي طالما تحدثت عن طبيعة المعرفة والاتجاهات المعرفية من مادية وواقعية وتجريبية ومثالية.؟!

فى البداية دعونا نضع هذين المصطلحين تحت المجهر لإخراجهما من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل ، بمعنى إخراج ما بداخل هذه الذات المدركة من عقلانية وتعقل الموضوع محل الإدراك، أيا كان هذا الموضوع ، لكي يقع أمام أعيننا ونحلله تحليلا دقيقا يعتمد على العقل مدعوما بقوة الحدس فهو محل إدراكاتنا.

فما المقصود بالذات المدركة ؟!.

بالحتمية المنطقية إذا ما ذكرت الذات فعقلا لابد أن تذكر الأنا وما أن تذكر الأنا إذن يذكر الإنسان ، وعلاقة الأنا بالآخر ستكون محل اهتمامنا - ككيان وجودي يحمل ما يحمله من متناقضات ، لكنه وجود متحيز يحاول بشتى الطرق أن يحدث تواؤما وتوافقا مع واقعه موفقا بين أناه وأنات الآخرين ، لأنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يعيش منعزلا ومغتربا عن بني جلدته، وإلا سيكون مخالفا لتكوينه الفسيولوجي والبيولوجي والنفسي ، ليس هذا وحسب بل وتكوينه الميتافيزيقي الذي يحاول جاهدا أن يخرج ميتافيزيقاه الكامنة بداخله فهو دوما تواق إلى عالم أفضل وهنا يأتي دور الأنا (الذات المدركة)، هل ستظل منغمسة في ماديتها مستغرقة إياها بالكلية، أم ستعاف هذه المادية محاولة التخلص من براثنها والوقوع في شراكها بحثا عن عالم أفضل.

لكن كيف السبيل إلى الخلاص من أوهام هذا الكهف المظلم، أوهام المحدثات والانطلاق إلى عالم أفضل عالم الحق والخير والجمال.

وهنا يأتي دور الموضوع محل الإدراك وعمل الذات المدركة فيه.

فما المقصود بالموضوع محل الإدراك.؟!

أما المقصود بالموضوع محل الإدراك فهو كل ما يقع تحت طائلة الإدراك والوعي المعرفي ويخضع للمناقشة والتحليل والمقارنة والمقاربة والنقد ، كموضوعات العلوم الطبيعية سواء التي تدرس نظريا وتنتقل من حيز التنظير إلى واقع التطبيق الفعلي كعلم الفيزياء والأحياء والفلك والطب والهندسة والحيل "علم الميكانيكا"، أو العلوم النظرية كالتاريخ والجغرافيا وعلم النفس والاجتماع والفلسفة والاقتصاد وغيرها من العلوم.

كل هذه العلوم تقع في محل الادراك ومن ثم فهي موضوعات يغلب عليها طابع التخصص.

ورب سائل يسأل وما محل الميتافيزيقا من هذه الترسمية الفيزيقية ؟!.

هل الميتافيزيقا أو العالم الآخر يدخل في باب الموضوعات محل الإدراك.؟!

الميتافيزيقا منها المعرفات التي أخبر عنها الإله كالصفات الإلهية كالقدرة والإرادة والحياة والعلم وغيرها هي مخبرات تقع ضمن الأمور المدركة ومن ثم فهي محل للإدراك وتستطيع الذات المدركة التعامل معها ومع معطياتها كل حسب توجهه العقدي والفكري.

وهناك اللا معرفات ووجودها في الذهن وإدراكها يكون إدراكا معنويا، كحقيقة الذات الإلهية فإدراك كنهها لا يتأتى لأي أحد وإنما من الممكن أن تكون موجودة في الذهن والعجز عن إدراكها إدراك والكشف عن مجاهيلها لا يكون عقلا وإنما عن طريق الكشف القلبي النوراني الذي لا يتأتي إلا للمصطفين الأخيار لا حلولا ولا اتحادا ولا فناء، وإنما عن طريق التقرب إليه تعالى بالنوافل فلا يزال العبد يتقرب بالنوافل إلى أن يصبح نورانيا خالصا فتتجلى عليه الفيوضات الربانية فيدرك ما لا يستطيع أن يدركه الآخرون، والتعبير عن مثل هذه الإدراكات غير مجد مع القوم لأن هناك من سيصدق ومن سينكر ومن سيتهكم ومن سيتهم بالكفر والزندقة والإلحاد فمعرفة اللا معرفات سر مكنون بين العبد وربه.

وهذا ما عبر عنها الإمام الغزالي قائلا:(فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.)

كثيرة هي الموضوعات محل الإدراك، لكن على الجانب الآخر هل ستستطيع الذات الدراكة التعامل معها؟! ، وسأضرب مثالا على ذلك ، ما نراه من ثورة معلومات وتقدم تقني وذكاء اصطناعي وعالم رقمنة ، كيف السبيل للذات للأنا أن تتعامل مع مثل هذه الموضوعات الحداثية المعاصرة ، هل سترضى أن تتهم بالجهل ومن ثم تبذل كل ما في وسعها للتعامل مع هذه الثورة المعلوماتية أم ستتقوقع حول نفسها مؤثرة الانطواء ، حتى إن هي أرادت ذلك فالآخر "الموضوع محل الإدراك لن يرضى بذلك)، فالأنا هنا الذات المدركة ستجعل نفسها بين بينين ، إما أن تقبل ما يمليه عليها الآخر لا حيلة لها ، وإما أن تجاهد من أجل التعامل الند بالند مع مثل هذه الموضوعات محل الإدراك ، نعم هي محل إدراك لأنها تقع تحت طائلة الوعي المعرفي ، فكل ما يستطيع الإنسان تعلمه فهو معرف ومن ثم فهو مدرك.

قس على ذلك موضوعات السياسة والحكم والتجارة والإقتصاد والثقافة.

أيضا الموضوعات الدينية هي موضوعات محل للإدراك شريطة أن يكون ثم وسيط هنا بين الأنا والموضوع محل الإدراك، وهنا يتأتي دور المؤسسات الدينية التي عليها معول رئيس في تحويل رجل الدين إلى عالم دين لديه القدرة على ترويض الأنا، على تقبل الموضوع بسلاسة ويسر دونما إفراط أو تفريط .هؤلاء العلماء لابد أن يكونوا فعلا مؤهلين لحمل هذه الأمانة فهم بمثابة حلقة منتصف السلسلة إذا انفكت وانفصمت عراها تاهت الأنا وتاه الموضوع محل الإدراك.

ثم علاقة الأنا بالآخر ، علاقة الذات الإنسانية بالإنسانية، هل ستتعامل مع هذا الموضوع محل الإدراك ستتعامل الأنا مع الآخر ممثلة في شخوصها.

هل ستكون العلاقة بين الأنا والآخر علاقة تجاذب أم علاقة تنافر، هل ستتعامل الأنا مع الآخر على إنه كيان وجودي يحمل ما يحمله من مقومات وجوده ، يحمل الخير والشر بداخله ، الحب والكره ، الحسن والقبح.

هل ستكون العلاقة علاقة تواصل ممثلة في انفتاح الذات على الذات مما يكسب الإنسانية حسنا وبهاء. أم علاقة من الممكن أن نسميها علاقة الإتصال النفعي ، تبادل المصالح ومجرد أن تنتهي المصلحة كل يذهب في طريقه (الغاية تبرر الوسيلة) ، وفي هذا إنهيار قيمي لكينونة الأنا والآخر في آن واحد.

أما العكس فسيكسب حياة الإنسان حيوية وديناميكية واستمرارية وعلى إثرها يليق به أن يلقب بكائن حي ناطق عاقل إجتماعي ، أخلاقي.

نعم هناك علاقة بين الذات المدركة والموضوع محل الإدراك وواقعنا المعاصر بما يعج من متغيرات ومتناقضات قد تعصف بالأنا بالذات الإنسانية، وقد تعصف بالموضوع محل الإدراك ويحدث ما لا يحمد عقباه بما يمكن تسميته بالقطيعة المعرفية التي يسعى الغرب الأوربي سعيا حثيثا لإحداث هذه القطعية بشتى الطرق سواء عن طريق الغزو الاستعماري ، أو الهيمنة الإقتصادية أو عن طريق القوى الناعمة ممثلة في الغزو الثقافي لتكون له الهيمنة والغلبة في الحلبة.

فهل انتبهنا لهذا؟.
--------------------------------
بقلم: د. عادل القليعي
* أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان

مقالات اخرى للكاتب

عام دراسي جديد .. لماذا نتعلم؟!